الأحد، 25 مارس 2012

موت السيد "فني كمبيوتر"


كل شيء بدا غارقا في سكون مطبق حول فني "الكمبيوتر" سعيد منصور وهو يفتح عينيه في وحدة العناية المركزة.. وبينما راحت عيناه تجولان من السقف الى الاجهزة التي اوصلوا جسمه بها تحركت يده اليمنى لتتحسس نصفا باردا ثقيلا من الناحية اليسرى ما كان يشعر بحراكه.

هو لا يعرف ماذا حصل بعدما انهار في الشارع وهو يكيل الشتائم لنفسه انتقاما من نفسه.. ولا من وكيف اوصله الى هنا .. لكنه كان يدرك قبل السقوط انه اضاع كل شيء بغبائه وسذاجته المفرطة: مصير ابنته الوحيدة وئام، والاموال التي جمعها لعلاجها من مرضها النادر، وفقدانه الثقة بنفسه وبذكائه.. ويضاف الى كل ذلك الان نصف جسمه الذي يتأكد مع كل تمريرة ليده اليمنى على جانبه الايسر بانه يفقد كل حركة بالتدريج.

وكان كل ما يريد التاكد منه الان هو انه ما زال قادرا على الكلام.. فلسانه ثقيل.. وشفتاه مرتخيتان بعد ان اصبحتا اكثر انتفاخا..  وقد ادرك الان انه لا يستطيع رفع يده او ساقه اليسرى.. ولا التحكم بعينه اليسرى التي تدلى جفنها هي الاخرى.

وحين دخلت الممرضة ملبية نداء الجرس الذي قرعه بيده اليمنى التي ما زالت تتحرك، كان يريد التاكد من انه ما زال قادرا على النطق.. وبانه ما زال موجودا.. وان ما يعيشه ليس كابوسا..

 لكن ما ان خرجت الحروف بطيئة متقطعة من فمه حتى انحبست دموع لم يميز ماهيتها .. فقد امتزج شعور الأمل بالعودة مرة اخرى للحياة بشعور الأسى على حياته التي لن تعود كما كانت قبل شهر..

يومها زغللت عيناه وهو يقرأ عنوان رسالة "الايميل":

-                        تهانينا.. فزت بمائة الف دولار..

فقد لاحت فسحة من الامل ظل يوجد لها من المبررات ما يكفي ليقنع نفسه في النهاية بانها ليست عملية احتيال كما تزعم الصحف اليومية..او كما تحذر تحريات الشرطة.. فتفكيره في انقاذ حياة ابنته ذات الثلاثة عشر ربيعا من مصير ما زال مجهولا أعمى بصيرته عن التفكير بأي شيء آخر الا التمسك بالامل.. وبأن "الدنيا ما زالت في خير".

وعندما راح يقرأ رسالة "الايميل" بحرص وانتباه شديدين.. لم يراوده هاجس ريبة او خوف.. فقد كانت مذيلة باسم شركة لها عنوان موقع على "الانترنت"، وارقام تلفونات وفاكس... وتفاصيل اخرى كثيرة لا تضمر من خلف السطور ما يوحي بانه "فخ" يستدرجه باغراء المال الذي يجاهد في سبيل جمعه قرشا على قرش لانفاقه على علاج ابنته...فقد استدان من الاصدقاء كل ما استطاعوا عليه.. واستلف من البنك قرضا بالحد الاقصى الذي يوازي كل مكافأة نهاية خدمته.. لكن كل ذلك لم يكن ليكفي بعد ان قطع الاطباء المحليون كل فرصة لاحتمال علاجها داخل البلاد..

· ولكن كيف؟ ولماذا انا؟

· وكان الجواب في الرسالة : "من بين مليون عنوان "ايميل"  تم اختيارها عشوائيا من مواقع متعددة على "الانترنت" فاز عنوان بريدك الالكتروني بالجائزة الكبرى التي تقدمها مؤسستنا الخيرية سنويا..""

· وفي الرسالة تعليمات للاتصال مع السيد آرون دافيدسون على عنوانه المذكور في نهايتها.

يومها تفحص العناوين والارقام .. وزار الموقع المذكور.. تصميم انيق .. وصور وشهادات لاطفال ونساء يبدو انهم تعساء او فقراء حصلوا على مساعدة ممن يبدون مثل "ملائكة رحمة" في هذه المؤسسة الخيرية "المسجلة رسميا" منذ سنوات.

ومن مطابقة أرقام الهواتف المذكورة وعنوان "الايميل" علم ان من يدعى السيد آرون دافيدسون هو منسق العمليات..

اذن.. فالمؤسسة موجودة فعلا كما تؤكد ايضا نتائج البحث في "جوجل"، او هكذا اقنع نفسه وفي ذهنه صورة ابنته التي عزلتها الاسرة وحيدة في غرفة خشية ان تكون حالتها معدية..

وكان يردد في نفسه وهو يكتب "الكود".. ويبعثه برسالة "ايميل" حسب التعليمات:

-                        ربما هي منة من الله.. فالله وحده يعلم كم تعاني وئام.. وكم نقاسي نحن معها..

فقبل عام كانت ابنته وئام طفلة طبيعية مثل غيرها من البنات.. تلهو وتلعب وترسم وتذهب الى مدرستها في كل صباح.. وفي ذلك اليوم من ايام يوليو القائظة عادت من المدرسة شاحبة الوجه.. وقبل ان تتناول عشاءها اندفع الدم غزيرا من فمها بشكل مفاجيء .. فهرع بها ترافقه امها الى اقرب طبيب عام.. لكن الطبيب هون من الامر قائلا انها "قرحة شائعة".. وتزول مع العلاج خلال اسبوعين على الاكثر" .. لكنها في الاسبوع الثالث نزفت من انفها .. ثم راحت تنزف بعد ذلك من عينيها.. ومن بين خصلات شعرها.. ومن أخمص قدميها.. وكلما عرضت على طبيب تزداد الحيرة أكثر.. حتى وصل الامر الى اكبر مركز طبي في البلاد ، فقال اكثرهم تخصصا ان مرضها في صفائح دمها .. وهو نسخة معقدة من نوع مختلف لتناذر يصيب هذه الصفائح.. ولا علاج له.

كان دمها الذي ينزف من دون توقف لا يشبه دماء الآخرين.. سائلا كالماء.. واحمراره اقل درجات من احمرار الدم المعروف.. ومنذ ذلك اليوم الذي اخرجت فيه من المدرسة بعد ان تلطخ قميصها كله بالدماء لم تقبل بها مدرسة اخرى بسبب حالتها الغريبة.. وما عاد الاطفال يقتربون منها.. وما عاد احد يلعب معها او يشاركها الرسم.. ورغم عمليات نقل الدم العديدة التي اجريت لها لتعويض ما تفقده بشكل مستمر.. الا ان اسوأ ما في الامر كان عندما تنهض من نومها في الصباح وقد غطى جسمها دم جاف تخثر على جلدها.. وكان الاسوأ خوفه وزوجته من ان تنزف ابنتهما الوحيدة ذات يوم كمية كبيرة من دمها وبسرعة دون ان يتمكنا من اسعافها..

فهل قدّر الله ان يختاره من بين مليون "ايميل" ليهبه هذه "المائة الف دولار"؟

هو مؤمن بالله.. ولم يترك وزوجته مسجدا او كنيسة او معبدا دون ان يطلبا  الرحمة واللطف والغفران.. ولم يتركا طبيبا شعبيا الا وقصداه.. وحتى المشعوذين ايضا .. فقد ظل احدهم يضربها بعصا وهي تنزف "لاخراج الجن من جسمها"، بينما قال آخر: "انها لعنة حلت بالطفلة.. وانه يجب احراق كل ما يخصها في شارع عام".

ومع ذلك ظل فني "الكمبيوتر" سعيد منصور متشبثا بالامل.. فطرق "الانترنت" باحثا عن حالات مشابهة واخصائيين في هذا المرض الذي كاد يفقده عقله وهو يرى ابنته تتلوى وتتألم بصمت..

وفي احد الردود التي وصلته من اخصائي في "هيموجلوبين الدم" اهتم بحالتها بعدما عرضها في احد المنتديات طلب منه عرض ابنته على اخصائي بمرض "فون ويليبراند".. و"هو مرض يسببه عامل يساعد الصفائح على الالتصاق بالاوعية الدموية ويساعد الدم على التكتل ليصبح كثيفا" كما شرح له الاخصائي في رده.

وكان كل ما جمعه سعيد من ديون وقرض حينها لا يتجاوز العشرين الف دولار... فكتب للاخصائي بانه مستعد للسفر بها اليه ودفع كل ما لديه كي يعالجها.. لكن الاخصائي لم يعده بذلك وان وافق على استقبالها مجانا.

وبينما كان مستغرقا في التفكير بما يمكن ان تفعله هذه "المائة الف دولار" عندما يقبض الجائزة .. رن هاتفه المتحرك يومها ليبادره سؤال:

-                        "هالو" ..هل انت "مستر" سعيد منصور؟

كان المتحدث آرون دافيدسون، والذي تابع:

-            حسنا "مستر" سعيد.. أردت التأكد من رقم "الموبايل" .. تابع بريدك الالكتروني..

ولم تمض دقائق بعدها حتى وصلت الرسالة الموعودة مفصلة بطلب صورة جواز السفر والحساب البنكي، وعنوان المنزل ومعلومات اكثر دقة.. وطلب بتحويل مبلغ 20 الف دولار لدفعها مصاريف ضريبة ومعاملات بنكية لتحويل قيمة الجائزة الى حسابه..

-                        ولم لا تخصمه من "المائة الف دولار، وتحول الباقي"؟

لكن السيد دافيدسون اوضح له عندما رد على سؤاله الهاتفي:

· للاسف لا نستطيع.. فقيمة الجائزة يجب ان تحول كامله.. ونحن لا نستطيع دفع هذا المبلغ نيابة عنك.. واذا اردت الاسراع.. عجل بالتحويل والا ستفقد الجائزة بعد ايام..

وخلال تلك المكالمة الدولية الطويلة لم تسعف سعيد محاولاته وهو يشرح صعوبة وضعه استدرارا للمساعدة .. وفي النهاية اقنعه السيد دافيدسون بان يقدم طلبا منفصلا للمساعدة ربما يعيد اليه ما سيحوله من مصاريف يجب ان تدفعها المؤسسة اولا للبنك..

ووقع سعيد في حيرة.. ما عساه يفعل؟؟

فما طُِلب منه كان كل ما جمعه حتى تلك اللحظة .. لكن "المائة الف دولار" فرصة لا تعوض.. وهي قادمة بالتاكيد كما يظهر من صورة أمر للبنك ارسلها دافيدسون بـ"الايميل" اثناء المكالمة تقضي بتحويل المبلغ وفقا لبياناته التفصيلية التي ارسلها قبل نصف ساعة بـ"بالايميل"، وفي حالته، لم يكن غير هذه "المائة الف دولار" ما قد يسدد حتى الديون والقرض البنكي ايضا اذا ما وجد علاجا لابنته..

وكان لا يريد ان يعلم بذلك احدا غيره .. حتى زوجته التي باعت كل ما لديها من مجوهرات لتوفير ما يمكن ان يحتاجه علاج غير محسوب التكاليف بعد..

وفي تلك الليلة لم ينم وهو يتقلب مترددا بين مقتنع وخائف.. وفي كل مرة كانت تراوده فكرة انها لعبة او مغامرة خاسرة.. كان تمسكه بالامل في علاج ابنته الوحيدة يزيده قناعة بان كل شيء من تدبير الله.. وان الله ربما عالم بحاله وحال ابنته.. وان هناك الكثير ممن اضحوا مليونيرات في لحظة بعد فوزهم في جوائز "يانصيب"..

وقبل ان يخرج من البنك ظهيرة اليوم التالي، سارع بالاتصال مع السيد آرون دافيدسون ليبلغه ان العشرين الف دولار في الطريق متوسلا اياه ان يفي بوعده ويحول قيمة الجائزة باسرع وقت ممكن للسفر بابنته للعلاج في الخارج.

لكنما انتظاره طال.. ومع انقضاء شهر على آخر اتصال بينهما دون ان يظهر شيء في الافق .. ادرك سعيد كم كان ساذجا واحمق .. فلم يعد احد يرد احد على مكالماته الهاتفية المتلاحقة .. ولا على رسائله الالكترونية بـ"الايميل".. ولا على "فاكساته" .. وحتى الموقع الذي كان موجودا على "الانترنت" اختفى .

وقبل ان يجد نفسه هنا.. شعر يومها بان الدنيا تدور من حوله.. وان خدرا يسري من اخمص قدميه الى اعلى رأسه.. وفقد الرؤية .. ولا يعرف ما حل به بعد ذلك..

لكنه يرى زوجته تدخل عليه الان وفي يدها هاتفه الذي وجدوه معه عندما نقلوه الى هنا.. فاخذه منها ليرى من سأل عنه او اتصل به.. فلعل السيد دافيدسون رد اخيرا.. او ربما ارسل رسالة يعلمه فيها بالتحويل.. لكنما رسالة وحيدة كانت هناك..

· تهانينا.. فزت بمليون دولار..

وقطع السكون صرخة دوّت.. وعويل جلجل في ردهات المستشفى قبل ان تهوي زوجته جثة هامدة عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق