الأحد، 25 مارس 2012

جاران في مصعد


عقد العزم على ان يبادره بالتعارف في اول فرصة يراه فيها مرة اخرى.. وعندما توقف المصعد ووجده منتظرا على بابه ..هم بمصافحته، لكن جاره "الذي لا يعرف اسمه بعد" دخل منصتا لمكالمة على هاتفه المتحرك .. وعندما خرجا من الدور السفلي.. ذهب كل منهما في اتجاه.

كل ذلك بدأ عندما تصادف وصول بائع الهاتف محمد علي الى باب المصعد مع هذا الجار "الذي لا يعرف اسمه بعد" قبل بضعة أيام ..

يومها كان الجو حارا.. والرطوبة خانقة.. وكان العرق يتصبب من جبهتيهما.

اما المصعد، فقد كانت ارقامه تتتابع نزولا من الادوار العليا على لوحة مستطيلة باعلاه .. فيما كانت عيون إثنيهما المنتظرين تلاحقها من رقم لآخر دون ان ينبس اي منهما ببنت شفة..

وفي لحظة شعر محمد علي بان جاره الذي سكن البناية منذ مدة ليست قصيرة كان يحاول استراق النظر اليه خلسة.. فادار وجهه نحوه مستعدا للرد على تذمر توقعه في مثل تلك الظروف من حرارة الجو وحنق السائقين من ازدحام السير رغم اتساع الشوارع .. أو ندرة الحصول على موقف في محيط البناية ... او ربما الشكوى من بطء المصعد الذي تأخر في الوصول .. تدفعه غريزة الفضول الى التعرف على الآخر كما يفعل مع زبائنه الذين يرتادون حانوته .. لكن الجار "الذي لا يعرف اسمه بعد" سرعان ما اشاح بوجهه للناحية الاخرى ثم عاد ينظر الى لوحة الارقام.. واضعا يده أكثر من مرة على زر الاستدعاء..

وبتلقائية كان محمد علي يكرر ما كان يفعله جاره وهو يبتلع شعورا مريرا بالاحباط.

ويتذكر محمد علي ذلك اليوم الذي رأى فيه هذا الوجه أول مرة..

كان خارجا من المصعد في طريقه الى الحانوت.. اما جاره فكان يجادل حارس البناية حول أمر ما وسط قطع أثاث تناثرت على المدخل، فيما كان عمال افغانيون بقمصانهم الطويلة التي بللها العرق حتى الركبتين وسراويلهم الفضفاضة التي يربطونها بحبال تتدلى اطرافها من خواصرهم، ينقلون عفش شقته الجديدة وهم منهكون من العطش.

لم يعرف يومها اية شقة هي مقصدهم في البناية التي قدم اليها جاره الجديد.. كما لم يكن في الامر ما يدعو للغرابة ايضاً.. فقد اعتاد محمد علي مثل جاره الجديد على الترحال من بناية لاخرى كلما اشتدت ظروف الغلاء.. او كلما ارسل المالك اشعارا برفع قيمة الايجار او طلبا باخلاء الشقة لغرض او لآخر.

ولا يتذكر بائع الهواتف محمد علي انه تخاطب يوما مع جار او جارة ممن كان يلتقيهم داخل المصعد او امامه الا في حالات نادرة.. مع انه بحكم مهنته كان يفكر دائما باجتذابهم كزبائن للموديلات التي كانت تتجدد في حانوته بسرعة الصاروخ..

بل انه لم يكوِّن جيرانا عاديين او اصدقاء يتبادل الزيارات المنزلية معهم منذ ان تزوج قبل عدة سنين... فلكثرة تنقله وكثرة تنقلهم كانت الوجوه تتبدل عليه كثيرا .. وسريعا ايضا حين الدخول أو عند الخروج من المصعد.. او عند توقفه في احد الادوار..

اما أطول جملة سمعها من احدهم في مثل هذه الحالات فهي السؤال عن رقم الطابق.. او طلب الضغط على رقم دور ما مع تقديم الشكر، ثم تشيح العيون عن بعضها.. وتتباعد الاجساد في مسافات آمنة ان كان الركاب من الجنسين .. وغالبا ما يسود الصمت بعد ذلك قبل ان يتفرق كل منهم الى شقته في الدور الذي يسكن فيه.

غير ان هذا الجار "الذي لا يعرف اسمه بعد" لم يتفوه ابدا بشيء في ذلك اليوم الذي تصادف بلقائه امام المصعد.

وعندما ضغط محمد علي على رقم طابقه أولا.. تقدم جاره من الزاوية المقابلة التي انتحى اليها بعد ان دخلاه وضغط على رقم دور أدنى منه بطابقين ثم عاد بظهره للوراء.

كانت المسافة بين عيون تنافرت نظراتها في غرفة المصعد الصغيرة أقصر من تلك المسافة بين عيني محمد علي وشاشة حاسوب بحجم كتاب كان لا يفارق كتفه معلقا بحقيبة .. لكنه من تلك الشاشة وجد وطنا بلا اجناس.. وبشرا بلا عيون تلاقت.. ولا وجوه تناظرت.. ولا أياد تصافحت .. لكنما انتماءً كان يجمعهم.. وفي فضائهم أوجد عنوانا عرفوه فصار منهم..

ومن نافذتين انفتحتا من بلدين قبل سنين تَعنْوَنَ محمد علي في مجتمع آدمي من لحم ودم لا يلتقي المقيمون فيه على قطعة ارض واحدة في بلد واحد .... اصدقاء وآخرين تجمعهم اهتمامات مشتركة .. تجارا وباعة .. عشاقا وحمقى.. مفكرين وساذجين.... ذكورا واناثا.. شبانا ومسنين.. جيدين ومحتالين..

بشر من كل الشرائح دون ان يلتقي وجه واحد منهم بوجه الأخر، لكنهم دائما ما يحلون ضيوفا على بعضهم من نافذتين تنفتح احداهما هنا.. وتنفتح اخرى هناك.. يتبادلون التحايا يوميا.. ويتابعون اخبار بعضهم.. يتقاسمون حزن احدهم مع فرح الآخر .. ويبدعون الفكرة والحلم.. ويدركون خفوت المشاعر واندفاعها من كلمة ترسل من هذه الشاشة الحوارية او صورة تعبيرية ترد من تلك.

وعندما فتح كمبيوتره ذلك المساء الذي التقى فيه جاره "الذي لا يعرف اسمه بعد".. استقبله صديقه الكرواتي ميلان سوستاريتش عاتبا عليه تأخره في الظهور وسؤاله عن السبب بعد ان كاد يمل من انتظاره..

كان ميلان يعد عرضا كبيرا من اجهزة لاسلكي متطورة لشركة نفطية كبرى في منطقة الخليج .. وكان يريد لمحمد علي ان يكون في الصورة ويحظى من الصفقة بنصيب مقابل خدماته..

هو يعرف ميلان منذ سبع سنين.. ويعرف صديقته ماليينا التي شكت له ذات مرة ضيقها من انشغاله الدائم عنها بجلوسه الادماني على الكمبيوتر.

وأول مرة "انشبك" فيها مع ميلان.. كان نقطة التشابك الثالثة التي جمعتهما مبرمج اتصالات أوكراني سأله محمد علي عن كيفية تعريب "الموبايل".. فقدمه اليه ومن يومها صارا صديقين.

كان ميلان محترفا باجهزة الاتصالات المعقدة.. يدير كل عمله من اقصى شرق الصين لاقصى غرب العالم من "كمبيوتره" في البيت.

وكان لا يمر يوم دون ان يتبادلا ولو القاء تحية من حرفين تسطرهما لوحة مفاتيح لا حياة فيها.. لكن كل حرف منهما يذهب مشحونا بمشاعر جياشة يذوب امامها جمود المفاتيح الصلدة ..

ورغم ان محمد علي لا يعرف من شكل ميلان سوى صورة رجل تخطى الاربعين بصلعة خفيفة وعيون زرقاء.. لكنه ذات ليلة قضاها في المستشفى بعد نوبة قلبية ظل ساهرا معه على الهاتف مطمئنا على حالته.. يتابع تفاصيل كل ما حدث.. من نقله الى المستشفى.. وماذا فعل الاطباء.. ولون الغرفة التي كان مقيما فيها.. وماذا كان يلبس وهو راقد على السرير.

وكانا يضحكان احيانا لان ممرضة المتابعة "ميرنا" كانت تدخل بين الفينة والاخرى وهي تنظر اليه بعينين غبيتين فيما هما يواصلان مكالمة دولية طويلة ..

وقد عرف من صديقه كيف تبدو.. ملامحها وطولها .. وكيف لا تفارقها ابتسامة الممرضات بغمازتين انثويتين جميلتين طوال الوقت.. وكم كانت تبدو مثيرة له وهي تتحرك أمامه برشاقة الفراشة في غرفته .. فيما هو يلاحقها بنظراته من السرير خائفا من ان تضبطه صديقته ماليينا وهو يحدق في صدرها النافر او ساقيها الطويلتين.

انه يعرف الكثير عن الكرواتي ميلان سوستاريتش، وعن البولندي برونيسلو والروماني اليكساندرو واليوناني اندرياس والروسي فلاديمير والامريكي توم والتركي مورات والصيني زهاو والهندي سينغ.. وعرب كثيرين ومن اعدائهم.. لكنهم جميعا اختزلوا جغرافية الكون بحدود شاشة حوار صغيرة تنفتح حيثما يكون احدهم.. ومن دون اكتراث او احتساب لفارق التوقيت..

بشر آدميون من مدن وقرى لا تذكر اسماء بعضها على الخارطة.. وما كان محمد علي يميزهم سناً او شكلاً او ديناً.. لكنه كان يحسهم ويحسونه.. يتفاعلون.. يتحاورون.. يحزنون ويفرحون.. يصحون من آخر العالم ويذهبون للنوم من أوله.

وفي تلك الليلة عقد محمد علي العزم على ان يبادر جاره بالتعارف في اول فرصة يراه فيها مرة اخرى ..

فقد كان أبعد واحد من هؤلاء على سطح الكوكب أقرب اليه من هذا الجار الذي لا يفصله عنه سوى طابقين فقط .. والذي ما زال يراه مبتعدا عنه في اتجاه آخر منذ ان خرجا من المصعد قبل قليل.. .. والذي "ما زال لا يعرف اسمه بعد".




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق