الأحد، 25 مارس 2012

لمن أشكو؟


كنت ما ازال جالسا كمن اصابته ضربة في الرأس.. وعيناي ما زالتا تحملقان في "اللا ملامح" التي كنت اتخيلها ترتسم على شاشة الكمبيوتر على بعد سنتمترات قليلة امامي، واصابعي هاربة بعيدا عن لوحة المفاتيح، وقد استقرت يداي على ذراعي الكرسي.

ثم انفتحت نافذة "شات" جديدة رحت اتابع ما يكتب فيها بالانجليزية:

-                        "هاي مستر" محمد.. لم نتحدث منذ مدة طويلة.

كان بائعا صينيا سألته ذات مرة عن هاتف متحرك فارسل لي قائمة باسعار مجموعة كبيرة من السلع .. أحذية واقمشة وادوات تجميل ومواد بناء واجهزة الكترونية متعددة وحتى آلات وماكينات يمكن ان تنشيء مصنعاً، وكان يظن باني تاجر كبير، لا مجرد سائل يبحث عن جهاز واحد جيد بسعر اقل من اسعار السوق.

واكمل:

· لدي الان عرض لماركة مقلدة بنصف سعرها الاصلي... هل ارسل لك الصور؟

لم يكن أمر هذا الصيني يعنيني من قريب او بعيد.. لكني وجدت في رسالته فرصة اخرج فيها من حالة "شبه الواقع" التي باغتتني قبل ساعتين.

قلت له :

· ارسل... ولكني لست بمزاج جيد الان.

لم ينتظر ان اكمل الجملة حتى كانت الصورة الاولى بانتظار ان اقبل نقلها قبل ان اتلقى أمر قبول الصورة الثانية.

وحاولت اكمال محاولتي لفتح حوار:

· سمعت خبرا سيئا قبل ساعتين..

لكنما جاء امر قبول الصورة الثالثة .. فالرابعة .. وما ان انتهى من ارسال قائمة الاسعار في النهاية حتى كتب قائلا:

· ارجو ان يعجبك ما ارسلت.. وان اردت معلومات اكثر فاني في انتظارك.. ساذهب الان.. "باي".

وقطع الحوار .. فلربما فتح نافذة حوار اخرى مع شخص آخر.. وربما بدأ بارسال الصور وقائمة الاسعار الان.

ومع ذلك تشجعت لأبحث عن محاور آخر..

فتحت قائمة الموجودين على الشبكة..

آه.. ها هي مونيكا..

رومانية ذهبت الى مدريد بحثا عن عريس طالما تمنت ان يكون اسبانيا.. وقد عرفتها منذ خمس سنين.. كنت اعرف عنها الكثير .. وعن والدها الذي توفي قبل عام في بوخارست، وامها التي لم تجد رفيقا لها في ورشة الخياطة بعد وفاة والدها فقررت اللحاق بها لتعيش معها، وعن شقيقتها التي تطلقت من زوج سوري وذهبت مع ابنها لتتزوج شخصا آخر من هاواي، وعن شقيقها الذي يعاني من مرض زوجته بسرطان الثدي.

وكانت هي تعرف الكثير عني ايضاً، لكننا لم نتحاور على "الشات" منذ ان تبادلنا التهاني في عيد الميلاد الاخير.

-                        "هاي" مونيكا

ارسلت الرسالة وانتظرت طويلا بلا جواب..

ربما كانت مشغولة بحوار آخر.. وربما نسيت جهازها مفتوحا عندما ذهبت لعملها في عيادة صغيرة استأجرت فيها غرفة للتدليك الطبي.

ومع ذلك واصلت الكتابة:

· لا اشعر بالارتياح اليوم.. وصلني خبر سيء قبل ساعتين..

ولم ترد..

وواصلت:

· كانت حبي الاول ... تصوري.. لا اكاد اذكر وجهها الآن.

ولم ياتني الرد ايضا.

عدت للقائمة مرة اخرى..

هذه روث .. من كوستاريكا.. موظفة مكتبة اكملت الماجستير، تجاوزت الاربعين وما زالت تنتظر حبا حقيقيا.. ورجلا يستحق ان يكون اول من تمنحه عذريتها.. وفي كل مرة كنا نتحاور فيها كانت تطلب الرأي في رجل جديد سرعان ما تكون العلاقة بينهما قد بدأت او انتهت للتو لسبب او لآخر.. لكنه ليس بدانتها التي تعتقد بانها قد تدمر ما تبقى من حياتها وهي تنتظر من تسميه "مستر رايت".

· "هاي" روث.. هل انت موجودة على الخط؟

وجاءني الرد سريعا هذه المرة:

-                        نعم محمد.. كيف حالك؟

· انا بخير .. شكرا.. لكني سمعت خبرا سيئا قبل ساعتين ..

لكنها تابعت من طرفها:

-                        اللئيم روني.. انه لا يرد على اتصالاتي منذ اسبوعين... اعتقد انه هرب ولا يريدني بعد الان.

لم اعرف عن روني سوى انه كولومبي متزوج يعمل مهندس كهرباء في كوستاريكا.. وهو يكبرها سنا وله اولاد.. لكنه عبر عن احترامه لها.. وقد وعدها بالزواج لانه مل من زواجه الاول لكثرة المشكلات مع زوجته ماريوري.. ويريد ان يقضي بقية عمره معها في سان خوسيه.

وواصلت قائلة:

-                        لقد ذهب الى بوغوتا منذ اسبوعين ..ولم يعد حتى الان.. واعتقد انه لن يعود.

ووجدتني اتابع من دون حماس ما راحت تكمله عن آخر لقاء جمعهما في منزلها.. وكيف انتهى الامر بالشجار.. وغادر غاضبا.. فيما انا احاول انتهاز وقفة لاسترسالها المتلاحق كالرصاص واخبرها باني تلقيت منذ ساعتين خبرا سيئا..

لكنها لم تتوقف.. وراحت تطرح الكثير من الاسئلة عما ينبغي وما لا ينبغي ان تفعله للخروج من هذه العلاقة بكرامتها ..

ولم تتوقف عيناي عن متابعة ما تكتب الا عندما رن هاتفي المتحرك:

-                        محمد .. بارك لي.. لقد حصلت اخيرا على الموافقة..

كانت سعاد.. اخصائية في علاج النطق والتلعثم .. وقد تغربت للعمل هنا بعقد عمل مع مركز متخصص .. وكانت تنوي العودة الى بلادها بعد ان شعرت بانها استنفذت ما جاءت لانجازه من دراسة بحثية كانت قد بدأتها مع مجموعة اطفال في بلدها..

واكملت:

-                        ساغادر قريبا الى كوبنهاجن لعرض الرسالة في مؤتمر عالمي..

اجبتها متعمدا ان اجعل في نبرة صوتي ما يوحي باني لست في وضع مريح:

· بالتوفيق.. لقد علمت قبل ساعتين ..

لكنها قاطعتني مكملة:

-                        واخيرا.. اشعر بان حملا ثقيلا انزاح عن كتفي .. وما يفرحني ان الرسالة ستنشر في دورية "لانسيت" كما وعدوني.. انا فرحة جدا يا محمد .. فرحة جدا..

هي فرحة.. وروث ما زالت تسألني ماذا تفعل مع روني.. ومونيكا لم ترد حتى الان.. والصيني الذي ارسل لي الصور وقائمة الاسعار اغلق جهازه وذهب حتما للنوم..

وانا ما زلت ساهما.. لا اجد من اقول له بان ساعتين قبل الان اعادتاني بحزن عميق الى عشرين عاما للوراء..

فقد كتب يعزي:

· البقاء لله .. و"العوض بسلامتك"

وما ان تابع ذاكرا لي اسمها برسالة أخرى قصيرة على "الماسنجر".. حتى هربت اصابعي عن لوحة المفاتيح.. وتسمرت عيناي على نافذة "الشات" فيما واصل قائلا:

· يقولون انها نامت ليلة امس كعادتها دون ان يلحظ احد اي شيء غير طبيعي.. وفي الصباح وجدها زوجها جثة هامدة بلا حراك.. وقد دفنوها قبل عصر اليوم.. ورأيت ان اخبرك.. هل تذكر هدى يا محمد... رحمها الله..

وكيف لا اتذكر هدى ؟؟ وعلى الشاشة راحت تتشكل ملامح صورة لطالبة في المرحلة الثانوية جمعتني بها قصة حب صغيرة خبأها الماضي في ثنايا الذاكرة..

كانت هدى اول من كتبت لها رسالة حب.. أول نظرة علمتني كيف يشتبك العشاق بالعيون... أول من قضيت بعض الليالي الطويلة وانا اعد الدقائق كي اراها على الطريق الى المدرسة صباح اليوم التالي .. أول وردة طويتها بين دفتي كتاب .. أول قبلة عرفت بعدها ان للشفاه لغة لا تترجمها الا الاحاسيس.. وأول دفء في مساء شتوي جمعنا تحت شجرة لوز في ربوة بجوار منزلها..

كانت هدى أول الوعد وآخره الذي انتهى سريعا بزواجها من قريب تاركة لي فسحة من ماض لم يخص احدا سواي في زحمة الايام..

والان ترحل..

-                        كان منظر ابنائها يقطع القلب.. اما زوجها فقد كان متماسكا..

هكذا قال من ابلغني قبل ساعتين.. لكنه لم يرني وانا اغالب السقوط عن الكرسي من هول الصدمة..

ففي لحظة أخرجت كلماته المعدودات كل ما أبقيته دفينا طوال هذه السنوات لينفجر حزنا على ماض يخصني وسطا عليه غيري ليعيده الي في النهاية "بيان نعي" برسالة قصيرة تصلني على "الماسنجر"..

هو ظل متماسكا.. وانا هويت..

كأنما دعامة من بنيان حياتي سقطت من مكانها لينهار البناء كله..

وما زلت غير قادر على النهوض ..

احاول التمعن فيما كنت احاول ان اشكله بخيالي من آخر مرة رأيتها بعد خطبتها..

يومها وقفت تلوح لي مودعة من خلف ستارة .. وانا احدق النظر فيها من الشارع المقابل باكيا بكاء من ليست له في اليد حيلة..

تماما كهذه اللحظة الان وانا اشعر بالحزن يأكلني من الداخل .. وبسخونة الدموع وهي تتساقط على وجنتي.. فيما يفتح احد الاصدقاء نافذة "شات" جديدة:

· مرحبا محمد.. كيف حالك؟

وبتلقائية أرد:

· حزين يا صديقي.. فقبل ساعتين سمعت خبرا سيئاً..

واردت ان اكمل .. لكنه استأذن لقطع الحوار قائلا:

· اراك فيما بعد.. فلديّ ما يشغلني الان .. "باي"




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق